الذين اولاهم الله سبحانه شرف العلم بشريعته، ويسر لهم أن يكونوا دعاة إلى منهاجه، وحمل منارة سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، هم أولى الناس بأن يضربوا النماذج المثالية المضيئة في تعاملاتهم معا، وفي سلوكهم تجاه بعضهم، كيف لا وهم الأعرف والأعلم بخلق نبيهم صلى الله عليه وسلم، والأحفظ لسيرته، والأدرى بسبيل صحابته والتابعين.
لكن حالة قد تفاجئنا وتدمي قلوبنا، بينما نرى شقاقا أو نزاعا أو إضرارا بين هؤلاء الفضلاء حاملي اللواء الأنور الكريم، فعندها ينعقد اللسان عن الكلام ويخيم الوجوم على المحيا، ويكتسي القلب رداء الحزن والألم.
ومن بين تلك الحالات السلبية، حالة نرى فيها شقاقا بين الدعاة من أهل السنة والجماعة بسبب مواقف واقعية أو رؤى تطبيقية، وبدلا من إحسان الظن يسود سوء الظن، وبدلا من العفو والصفح يكون الشقاق وإتساع الهوة، وبدلا من إختلاق الأعذار يكون الإتهام، وبدلا من الصفو يكون الكدر، وبدلا من ذكر المحاسن والفضائل تذكر المساوىء والنواقص، وبدلا من الإجتماع على الهدى والنور يجتمعون على الغضب والترصد، فتزداد الهوة، ويصبح المختلفان طرفين متنازعين، وينقلب الخلاف كراهية، وربما صار عداوة وصراعا!
لكم يسعد الشيطان بتلك الحالات البائسة، ولكم يفرح أعداء الإسلام بتلكما مواقف، ولكم تنزف الدعوة نزفا من نتائج ذلك، في وقت يتناهشنا الأكلة من كل حدب وصوب ونحن في أمس الحاجة للتعاضد والتناصح والتغافر وقبول الأعذار.
إن الاعتراف بالفضائل وحفظ الخيرات من شيم أهل الإيمان، يقول الشافعي: الحر من راعى وداد لحظة، أو إنتمى لمن علمه لفظه، ويقول أبو حاتم : الحر لا يكفر النعمة، ولا يتسخط المصيبة، بل عند النعم يشكر، وعند المصائب يصبر، ومن لم يكن لقليل المعروف عنده وقع أوشك أن لا يشكر الكثير منه، والنعم لا تستجلب زيادتها، ولا تدفع الآفات عنها إلا بالشكر.
وكثيرا ما يكون لكل من الدعاة أطراف النزاع تاريخ خير في نشر الحق، وبث الخير وتعليم التوحيد، وبيان سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من الفضل الكبير على المتعلمين من الناس وعلى عوامهم بل على طلاب العلم والدعاة والعلماء إذ هي مشاركة لهم في أداء دورهم الذي هو منوط بهم، فكيف ينسى الفضل أهل الفضل ويسمحون بدخول الشيطان بين ثنايا صفوفهم ينشىء البغضاء ويغري بالعداء؟!
يقول سبحانه: {ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة:273]، قال الطاهر بن عاشور: فأمروا في هاته الآية بأن يتعاهدوا الفضل، ولا ينسوه، لأن نسيانه يباعد بينهم وبينه، فيضمحل منهم، وموشك أن يحتاج إلى عفو غيره عنه في واقعة أخرى، ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة والانتفاع بهذا الوصف عند حلول التجربة... اهـ.
ويقول السعدي: الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف، وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة، لأن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين: إما عدل وإنصاف واجب، وهو: أخذ الواجب، وإعطاء الواجب، وإما فضل وإحسان، وهو إعطاء ما ليس بواجب والتسامح في الحقوق، والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة، ولو في بعض الأوقات، وخصوصا لمن بينك وبينه معاملة، أو مخالطة، فإن الله مجاز المحسنين بالفضل والكرم.
وأخرج البيهقي في الشعب عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: يا عائشة إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان.
وحفظ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق فضله: إن من أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين باب في المسجد إلا سدّ إلا باب أبي بكر، أخرجه البخاري.
وحفظ صلى الله عليه وسلم للمطعم بن عدي عمله حين أجاره، فقال في شأن أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» أخرجه البخاري.
فيا أهل المعروف والفضل إطردوا الشيطان من بينكم، ولا تعظموا خلافاتكم فتجعلوها عداوة وبغضاء، وتغافروا، ولا تسمحوا للجهال والدهماء أن يتطاولوا على أهل الفضل مهما إختلفتم معهم، وإذكروا وداد اللحظات الكريمة، وإعلموا أنكم في سفينة واحدة شئتم أو ابيتم، وإستغفروا ربكم إن ربكم لغفور رحيم
إن الوفاء على الكرام مكرمة *** واللؤم مقرون بذي النسيان
وترى الكريم لمن يقارب حافظا *** وترى اللئيم مضيع الإخوان
الكاتب: خالد رُوشه.
المصدر: موقع المسلم.